|
مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها |
الإشكالات القانونية المثارة إثر صياغة الميثاق لحق تقرير المصير
رغم تثبيت حق تقرير المصير كحق من حقوق الإنسان الأساسية بعد استقلال الكثير من الدول إثر حركات تصفية الاستعمار بموجب سلسلة من الوثائق الدولية، وعلى رأسها ميثاق الأمم المتحدة الذي تعمق في مضمون حق الشعوب في تقرير المصير، والحث على تكريس أبعاده الفردية والجماعية، ومدى مساهمتها في تطوير العلاقات الدولية، إلا أن هذا التأكيد على حق تقرير المصير ضمن المادتين الأولى الفقرة الثانية، والمادة 55 من الميثاق قد تعرض للمآخذ وعلى رأسها عدم تطابق محتوى المادة الأولى الفقرة الثانية والمادة 55 من الميثاق، ذلك أن المادة الثامنة عشرة الفقرة الثانية تجعل من حق تقرير المصير بمثابة الأساس الذي ينبغي أن تنهض عليه العلاقات الودية السياسية والاقتصادية، وهذا ما أقرته أيضا المادة 55 التي اعتمدت ذات المبدأ في المجلس الاقتصادي والاجتماعي.
إن ما يؤخذ على الميثاق أنه جاء متناقضا في بعض محتوياته المقررة لحق تقرير المصير وضرورة التعاون من أجل إقرار السلم والأمن، ومن جانب آخر ينص في بعض الفصول مثل الفصل 11 و12 و13 على نظام الوصاية والانتداب، مما يوقعه في تناقض وغموض في تجسيد الآليات الحقيقية التي قامت عليها منظمة الأمم المتحدة، فحتى وإن أقر مفهوم حق تقرير المصير، فإنه لا يوجد تناسق في الطرح بين نصوصه المادة الأولى والمادة 55 تشير إلى تمجيد حق تقرير المصير، بينما نجد المادة 73 تهدف إلى دفع أعضاء الأمم المتحدة إلى تحمل مسؤولية إدارة المناطق غير المستقلة.
جاء نص المادة الأولى الفقرة الثانية في عبارتها لجميع الشعوب التي في تقرير المصير دون تحديد ماهية وطبيعة هذا الحق، هذا من جهة، كما أنه من جهة أخرى لم يتم توضيح ما المقصود "بالشعوب" ولماذا اختيرت الشعوب من بين الفئات الاجتماعية الأخرى كصاحبة لهذا الحق، خاصة على اعتماد أن كلمة "شعوب" أصبحت تعني حسب بعض المؤلفين الجماعات التي تعيش تحت سيادة أجنبية لكنها لا تشارك فيها، وقد ذكرت المادتان الأولى و55 تقرير مصير للشعوب دون منح تفسير لمصطلح "شعب".
جعل عدم إدراج نص صريح ضمن ميثاق الأمم المتحدة يحدد معنى وهدف حق الشعوب في تقرير مصيرها، مضمون المادتين الأولى الفقرة الثانية والمادة 55 تحملان تفسيرات متعددة، فبالرجوع إلى الأعمال التحضيرية لمؤتمر سان فرانسيسكو، يلاحظ أن واضعي الميثاق أعطوا للحق معنيين الأول أنه كان يراد منه الحكم الذاتي، وفق ما جاء في الاجتماع المنعقد بتاريخ 15/5/1945 حيث جاء فيه: "... لا يتطابق الحق مع مقاصد الميثاق، إلا بقدر ما يكون مرده حق الشعوب في حكم ذاتها لا حق الانفصال".
ورغم التعليق على نصوص الميثاق بأن هناك بعض الغموض وعدم التحديد في المادتين الأولى و55 فإنه يمكن إزالة هذا الغموض بالرجوع إلى الأعمال التحضيرية لنصوص الميثاق، والتي أشارت إلى أن حق تقرير المصير، يعني إنهاء السيطرة الأجنبية المفروضة على الشعوب وتمكينها من الحصول على الاستقلال والحرية.
إضفاء صفة المبدأ على حق تقرير المصير
صنف بعض الفقه تقرير المصير على أساس أنه مبدأ ضمن ميثاق الأمم المتحدة، وهذا يستشف من صلب المادتين الأولى الفقرة الثانية والمادة 55 من الميثاق من خلال اعتمادهما مصطلح مبدأ حيث جاء فيها: "...على أساس احترام مبدأ تساوي الشعوب في الحقوق وحقها في تقرير المصير..."، فمن خلال نص المادتين تقرران صراحة تقرير المصير كمبدأ، رغم أن هناك من يرى أن صفة المبدأ تطلق على تساوي الشعوب في الحقوق، وليس حق تقرير المصير، غير أن هذا الطرح في غير محله، باعتبار أن مبدأ تساوي الشعوب في الحقوق وحق تقرير المصير هما عنصران مكونان لقاعدة واحدة، وهذا ما تقرر ضمن مقرر اللجنة الفرعية في مؤتمر سان فرانسيسكو بتاريخ 1/06/1945 حيث أقرت أن وصف المبدأ ينطبق على تقرير المصير وتساوي الشعوب في الحقوق معا.
شكك اتجاه فقهي في منح صفة المبدأ على تقرير المصير، بحجة أن تقرير المصير لم يذكر ضمن قائمة المبادئ السبعة المذكورة في المادة الثانية من الميثاق، التي تفرض على الأمم المتحدة وأعضائها الالتزام بها لتحقيق المقاصد الواردة ضمن المادة الأولى من الميثاق، لكن هذا الشك لا محل له من الصحة إثر النظر في الأعمال التحضيرية لميثاق الأمم المتحدة، وفق ما جاء ضمن مقرر اللجنة الفرعية الأولى أثناء مؤتمر سان فرانسيسكو التي أقرت أنه من الصعب التمييز المطلق بين ما ينبغي أن يدرج في إطار المقاصد أو المبادئ أو الديباجة، والواقع أن الكثير من الأمور نقلت خلال مداولتنا من المقاصد إلى المبادئ، والبعض استقر ضمن الديباجة وأحكام الميثاق، غير قابلة للتجزئة سواء في الحجية أو في السريان فحقوق والتزامات أعضاء منظمة الأمم المتحدة تكمل بعضها البعض، وكل منها يطبق في نطاق معين وهذا التوضيح يؤكد أن تقرير المصير ضمن ميثاق الأمم المتحدة مقصد وهدف ومبدأ في آن واحد
إن إثبات صفة المبدأ على تقرير المصير لم يتوقف عند هذا المفهوم، وإنما طرح إشكالا آخر في مدى اعتبار المبدأ قانونيا من عدمه، ورغم أن البعض ينفي على المبدأ صفته القانونية، إلا أنه بمجرد إدراج المبدأ في ميثاق الأمم المتحدة ووجود الصلة الوثيقة بين حق تقرير المصير وحفظ السلم والأمن الدوليين، كما أن الاعتراف به ضمن الفصل الأول المتعلق بالأهداف والمبادئ جعلته يتخذ صفة المبدأ القانوني .
الخلاف الفقهي حول صاحب الحق في تقرير المصير
إن صاحب الحق في تقرير المصير هو الآخر كان محل خلاف ونقاش، رغم أن المادتين الأولى والمادة 55 من الميثاق أقرتا بنص صريح حق الشعوب في تقرير مصيرها، إلا أن المسألة كانت محل نقاش ضمن الأعمال التحضيرية لميثاق الأمم المتحدة، حيث وجد اتجاهان متعارضان فقد أقر "الاتجاه الأول" أن المستفيد من الحق الشعوب فقط دون الأمم، ورأى هذا الاتجاه ضرورة استخدام مصطلح شعوب فقط دون الأمم باعتبار العلاقات الدولية تقوم بين الدول، وليس بين الأمم، أما "الاتجاه الثاني" اعتبر أن المستفيد من حق الشعوب في تقرير مصيرها هم "الدول""والأمم""والشعوب"، واعتبروا أن تعبير الشعوب لم ينطبق على الدول فحسب، بل ينطبق على كيانات أخرى مثل الأمم.
الأسس القانونية لاستخدام القوة لإعمال تقرير المصير
يعد مبدأ حق تقرير المصير من بين المبادئ الهامة التي يقوم عليها القانون الدولي المعاصر، ومن الأسس الجوهرية التي يستند إليها عصر التنظيم الدولي، حيث لعبت الدول دورا كبيرا في تكريسه في معظم المواثيق الدولية، وعلى رأسها ميثاق الأمم المتحدة، ورغم عدم تعريف ميثاق الأمم المتحدة لحق تقرير المصير، إلا أنه حظي بأهمية ضمنه، هذا ما دفع الجمعية العامة إلى تبنيها لعدة قرارات تؤكد على شرعية اللجوء إلى القوة، هذا بإضافة إلى أحكام ميثاق الأمم المتحدة، وغيرها من أحكام القانون الدولي المؤكدة على شرعية اللجوء إلى القوة لتقرير المصير، كما أن وجود الأساس القانوني لإعمال تقرير المصير باستخدام القوة لم يمنع اختلاف الفقه والدول حول شرعية استخدام القوة لإعمال حق تقرير المصير، تعددت المواثيق الدولية بمختلف أنواعها في تأكيدها على استخدام القوة وشرعيتها لإعمال حق تقرير المصير.