تعريف ونشأة استقلالية القضاء |
1 – تعريف استقاللية القضاء:
يعرف مبدأ استقلالية القضاء بأنه قاعدة تنظم علاقة السلطة القضائية بغيرها من سلطات الدولة وهي قائمة على أساس عدم التدخل من قبل باقي سلطات الدولة في أمور القضاء، وذلك بإعطائه سلطة دستورية مستقلة عن باقي السلطات، وإن استقلال القضاء يعني تحرر سلطته من أي تدخل من جانب السلطتين التشريعية والتنفيذية وعدم خضوع القضاة لغير القانون، بالإضافة إلى أن لا يخضع القضاة في ممارستهم لعملهم لسلطات أي جهة أخرى وأن يكون عملهم خالصا لإقرار الحق والعدل، وهذا المبدأ يقتضي إذا على أن كل سلطة من سلطات الدولة يجب أن تتمتع باختصاصات محدودة ومقصورة عليها، ومعنى هذا أن القضاء يجب أن يتمتع وحده بسلطة الفصل في القضايا المحالة إليه.
كما يقتضي هذا المبدأ أن يتمتع القضاة بحرية الحكم في المسائل المعروضة على القضاء بحيث يحكم استنادا إلى الحقائق بموجب القانون بعيدا عن التدخل والمضايقة أو التأثير من جانب أية جهة من جهات الحكومة أو من جانب الأفراد وبصفتهم الشخصية ، وكذلك يجب أن يكون القضاة أنفسهم مستقلين لا سلطان عليهم في أعمالهم لغير القانون والضمير، وإن قيام القاضي بوظيفته مستقلا وبعيدا عن التأثيرات لهو أكبر ضمان للحقوق العامة والخاصة ، ونجد أن استقلال القضاء يتجسد في الواقع على مظهرين ، فالمظهر الأول استقلال القضاء بصفته سلطة من سلطات الدولة الثلاث على قدم المساواة مع كل من السلطتين التشريعية والتنفيذية ، والمظهر الثاني استقلال القضاة كأفراد أثناء اضطلاعهم بمهامهم ووظائفهم بحيث يمارس القاضي واجبه دون تأثير أو تدخل من أي جهة كانت.
واستقلال القضاء سواء كان بمظهره الأول أو بمظهره الثاني أصبح جزءا من الضمير العالمي والوجدان الإنساني بحيث لم يعد من الجائز إنكاره في أي دولة متمدنة.
2- نشأة استقلال القضاء
يرتبط مبدأ استقلال القضاء ارتباطا وثيقا بمبدأ الفصل بين السلطات ، لأن مقتضى هذا المبدأ هو أن يقوم القضاء كسلطة على قدم المساواة مع السلطتين التشريعية والتنفيذية وأن تكون مستقلة عنهما ، رغم أن مبدأ الفصل بين السلطات له جذور تاريخية تمتد إلى عصور ما قبل الميلاد ، حيث كانت توجد الأفكار والبوادر الأولى التي من الممكن اعتبارها تاريخا له ، ونجد في كتابات الفلاسفة الإغريق أمثال أفلاطون وأرسطو ما يشير إلى معرفتهم بهذا المبدأ ، حيث قام أرسطو بتوزيع السلطة العامة إلى ثلاث وظائف وهي التشريعية ، التنفيذية والقضائية ، وتبع أرسطو فلاسفة آخرون أمثال شيشيرون وبوليبيس ، وتحتل السلطة القضائية وفقا لهذا المبدأ المرتبة الثالثة بعد السلطة التشريعية والتنفيذية ، وإن أول من قال بهذا المبدأ في عصر النهضة هو الفيلسوف الإنجليزي "كوك" في القرن السابع عشر، ولكن المبدأ ارتبط باسم الفيلسوف الفرنسي "مونتيسكيو" ( 1689 – 1755) الذي انحصر دوره الأساسي في شرح هذا المبدأ وإبراز خصائصه وتدعيمه لمبدأ الفصل بين السلطات في تفسيره السليم هو قاعدة من قواعد فن السياسة ومبدأ تمليه الحكمة السياسية ، وذلك أنه لكي تسير مصالح الدولة سيرا حسنا وحتى تضمن الحريات الفردية ، ويحول دون استبداد الحكام ، فإنه من الالزم ألا تركز السلطات كلها في هيئة واحدة ولو كانت هيئة نيابية تعمل باسم الشعب ، وأن مونتيسكيو هو الذي شرح مبدأ الفصل بين السلطات وأبرز خصائصه إبرازا دقيقا ودعمه بصياغة جديدة في مؤلفه الشهير "روح القوانين".
ولم يكن مبدأ الفصل بين السلطات معروفا في التشريعات القديمة إذ كانت حقا شخصيا للحاكم تتجمع في يده كل الصالحيات واالختصاصات بجميع امتيازاتها، ولذلك لم تكن سلطة قضائية تتمتع بأي استقالل .
وظهرت محاولات في القرنين السادس عشر والسابع عشر للحد من السلطة المطلقة وتوزيع السلطات على هيئات متعددة تمارس عملها بطريقة مشتركة، نظرا لأن تركيز السلطة في يد الحاكم كان يؤدي إلى أخطار بالغة المدى على الحريات الفردية، ويدفع الحاكم إلى الاستبداد والطغيان، وقد ساعد على ظهور هذه الاتجاهات بروز المبادئ الديمقراطية التي تهدف إلى ضمان الحريات الأساسية للإنسان ومقاومته الظلم والاستبداد، وفي القرن السابع عشر هاجم عدد من الفلاسفة والمفكرين وعلى رأسهم مونتيسكيو فكرة تجميع السلطات في يد واحدة وظهر مبدأ الفصل بين السلطات التي تستهدف الفصل بين الهيئات الحاكمة فصلا عضويا بحيث تختص كل هيئة بوظيفة من وظائف الدولة الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، ومنذ قيام الثورة الفرنسية وظهور مبدأ الفصل بين السلطات نشأ مبدأ استقلال السلطة القضائية فكان هذا المبدأ خطوة مهمة خطتها البشرية في مضمار الرقي والتقدم والتي تستهدف صيانة حقوق الأفراد ورفع الظلم.
وإذا كانت نظرية الفصل بين السلطات لا تستهدف إقامة فواصل قاطعة بين الوظائف الثالث للدولة، وإنما إقامة تعاون ومشاركة في الإختصاصات تختلف من نظام إلى آخر، إلا نه من المسلم به في جميع الدساتير الديمقراطية إضفاء صفة الاستقلال التام بالنسبة للسلطة القضائية والحرص على صيانة هذا الاستقلال تجاه السلطتين التنفيذية والتشريعية، وهكذا أخذت فكرة استقلال القضاء تتبلور وتكرس هذا الاستقلال في إعلانات حقوق الانسان التي نصت على وضع ضمانات للقضاء وحماية حق التقاضي وصيانته من الاعتداء ، إذ نصت المادة 16 من مبادئ حقوق الانسان الذي نادت بها الجمعية الوطنية في فرنسا غداة قيام الثورة الفرنسية:" إن كل مجتمع لا يتوافر فيه مبدأ الفصل بين السلطات يكون خاليا من الدستور"، ونص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة في عام 1948 على أن " لكل إنسان على قدم المساواة التامة مع الآخرين الحق في أن تنظر قضيته محكمة مستقلة محايدة نظرا منصفا وعلنيا للفصل في حقوقه والتزاماته" .